فصل: تفسير الآيات (93- 94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (93- 94):

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ...} الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريمُ الخَمْر، قال قومٌ من الصحابة: يا رسول اللَّه، كَيْفَ بِمَنْ مات مِنَّا، وهو يشربها، ويأكل المَيْسِرَ، ونحو هذا من القَوْل، فنزلَتْ هذه الآية، وهذا نظيرُ سؤالِهِمْ عَمَّن مات على القبلة الأولى، والجُنَاحُ: الإثم والحَرَج، والتَّكرار في قوله سبحانه: {اتَّقوا} يقتضي في كلِّ واحدة زيادةً على التي قبلها، وفي ذلك مبالغةٌ في هذه الصِّفَات لهم، وليسَتِ الآيةُ وقفاً على مَنْ عمل الصالحاتِ كلَّها، واتقى كلَّ التقوى، بل هي لكلِّ مؤمن، وإن كان عاصياً أحياناً؛ إذا كان قد عَمِلَ من هذه الخصالِ المَمْدُوحة ما استحق به أنْ يوصف بأنه مؤمنٌ عامل للصالحات متَّقٍ في غالبِ أمره، محسنٌ، فليس على هذا الصِّنْف جُنَاحٌ فيما طعم ممَّا لم يُحَرَّم عليه، و{طَعِمُواْ}: معناه: ذَاقُوا فصَاعداً في رُتَب الأكل والشُّرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقتُهُ في حاسَّة الذَّوْق.
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد}، أي: ليختبرنَّكم ليرى طاعتكم مِنْ معصيتكم، وقوله: {بشيءٍ} يقتضي تبعيضاً، و{مِنْ}: يحتمل أنْ تكون للتبعيض، ويحتمل أنْ تكون لبيانِ الجِنْس؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30].
وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب}: معناه: ليستمرَّ علمه تعالى عليه، وهو موجودٌ؛ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، و{بالغيب}: قال الطبريُّ: معناه: في الدنيا حيثُ لا يَرَى العبْدُ ربَّه، فهو غائبٌ عنه، والظاهر أنَّ المعنى: بالغَيْب من الناس، أي: في الخَلْوة ممَّن خاف اللَّه. انتهى، قلتُ: وقول الطبريِّ أظهر، ثم توعَّد تعالى من اعتدى بعد النهْيِ بالعذابِ الأليم، وهو عذابُ الآخرة.

.تفسير الآيات (95- 98):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ...} الآية: الصَّيْد: مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ»، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة، وبَسْطُ هذا في كُتُب الفقْه، و{حُرُم}: جمع حرامٍ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: {مُّتَعَمِّداً}، فقال مجاهد وغيره: معناه: متعمِّداً لقتله، ناسياً لإحرامه، فهذا يُكَفِّرُ، وأما إنْ كان ذاكراً لإِحرامه، فهو أعظمُ مِنْ أن يكفِّر، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له.
وقال جماعة من أهْل العلْمِ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم: المتعمِّد: القاصد للقتلِ، الذَّاكرُ لإِحرامه، فهو يكفِّر، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران، وقرأ نافع وغيره: {فَجَزَاءُ مِثْلِ}، بإضافة الجزاء إلى {مثل}، وقرأ حمزة وغيره: {فَجَزَاءُ} بالرفع، {مِثْلُ} بالرفع أيضاً، واختلفَ في هذه المماثلة، كيف تكُون، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلى مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة، وعظم المرأى، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم، ورد الطبريُّ وغيره هذا القولَ، والنَّعَم: لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم، إذا اجتمعت هذه الأصنافُ، فإن انفرد كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ نَعَم إلا للإبل وحْدها، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة على حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهورُ الناس.
قال ابنُ وهْب في العتبية: من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد؛ كما خَيَّره اللَّه تعالى في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة، أو كفارةً طعامَ مساكينَ، أو عَدْلَ ذلك صياماً، فإن اختار الهَدْيَ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً؛ لأنها أدنَى الهَدْيِ، فما لم يبلُغْ شاةً، حَكَمَا فيه بالطعامِ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً، وكذلك قال مالكٌ في المدوَّنة: إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً، لاَ دَرَاهِمَ، قال: وإن قوَّماه دراهمَ، واشتري بها طعامٌ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً، والأول أصْوَبُ، فإنْ شاء، أطعمه، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقالُ: كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ، فيعرف العددَ، ثم يقال: كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قولٌ حسنٌ احتاط فيه؛ لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام.
وقوله تعالى: {هَدْياً بالغ الكعبة} ذكرت {الكعبة}؛ لأنها أم الحَرَم، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ؛ ولابد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتى يكون بالِغَ الكعبة، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ.
واختلفَ في الطَّعَام، فقال جماعةٌ: الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهَدْيُ والإطعام بمكَّة، والصوم حيث شِئْتَ.
وقوله سبحانه: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}: الذوق هنا مستعارٌ، والوبالُ: سوءُ العاقبةِ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذى به بَعْد أكله، وعبَّر ب {أَمَرَه} عن جميع حاله؛ مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ، وحكمٍ علَيْه، ومُضِيِّ مالِهِ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ، واختلف في معنى قوله سبحانه: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف...} الآية: فقال عطاءُ بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام، فإن كان مستحلاًّ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم، وإن كان عاصياً، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ، قالوا: وكلَّما عاد المُحْرِمُ، فهو يكفِّر.
قال * ع *: ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه، وأصحابِهِ رحمهم اللَّه، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمِّد، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه، فإن اجترأ، وعاد ثانياً، فلا يُحْكَم عليه، ويقال له: ينتقم اللَّه منْكَ؛ كما قال اللَّه تعالى.
وقوله سبحانه: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}: تنبيهٌ على صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَاَف أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ»، قلت: والصيد لِلَّهْوِ مكروه، وروى أبو داود في سُنَنه، عن ابنِ عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتبع الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ، افتتن» انتهى.
وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ متاعا لَّكُمْ...} الآية: البَحْر: الماء الكثيرُ، مِلْحاً كان أو عَذْباً، وكلُّ نهر كبير: بحرٌ، وطعامه: هو كل ما قَذَفَ به، وما طَفَا عليه؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم؛ وهو مذهبُ مالكٍ.
و{متاعا}: نصبٌ على المَصْدر، والمعنى: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعُونَ به، وتأْتَدِمُونَ، و{لَكُمْ}: يريدُ حاضري البَحْر ومُدُنِهِ، و{لِلسَّيَّارَةِ}: المسافرينَ، واختلف في مقتضى قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً}، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته؛ فقالوا: إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد، ولا أنْ يأمر من يَصِيد، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله، ولا مِنْ غير أجله، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ، وكان عمر بنُ الخطَّاب رضي اللَّه عنه لاَ يرى بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه، أو لحلالِ مثله، وقال بمثل قولِ عمر عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام؛ وهو الصحيحُ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ، وهو حَلاَلٌ، والنبيُّ عليه السلام مُحْرِم.
ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ، مبالغةً في التحذير؛ ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالى، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت}؛ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس، وهداهم إلَيْهِ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من التزامهم أنَّ الكعبة قِوَامٌ، والهَدْي قِوَامٌ، والقلائد قِوَام، أي: أمر يقوم للناس بالتَّأمين، ووَضْعِ الحربِ أوزارها، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممَّا شرعه وارتضاه، و{جَعَلَ}، في هذه الآيةِ: بمعنى صَيَّر، والكَعْبَة بيْتُ مكة، وسمي كعبةً لتربيعه، قال أهْل اللُّغَة: كلُّ بَيْتٍ مربَّع، فهو مكعَّب، وكَعْبة، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى: {قِيَاماً لِّلنَّاسِ}، أي: موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام، ومع الهَدْيِ والقلائدِ، قال مَكِّيٌّ: معنى {قِيَاماً لِّلنَّاسِ}، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس؛ فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه، وإذا ساق الهَدْي كذلك، لم يعرض لَهُ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ، فلا يعرض له، ولا يؤذى حتى يَصِلَ إلى أَهله، قال ابنُ زيد: كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض. انتهى من الهداية.
والشهرُ هنا: اسمُ جنسٍ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب، وشَهْرُ مُضَرَ، وهو رَجَبٌ، وأما الهَدْيُ، فكان أماناً لمن يسوقه؛ لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ، وأما القلائد، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره شيئاً، فكان ذلك أماناً له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ، وقوله {ذلك}: إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً.
وقوله سبحانه: {بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات، والقولُ بغير هذا إلحادٌ في الدِّين وكُفْر.

.تفسير الآيات (99- 100):

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}
وقوله سبحانه: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ...} الآية: إخبارٌ للمؤمنين مضمَّنه الوعيدِ، إنِ انحرفوا، ولم يمتثلُوا ما بلغ الرسُولُ إليهم، {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}، قلت: قال الشيخُ أبو مَدْيَن رضي اللَّه عنه: الحَقُّ تعالى مطَّلع على السرائر والظواهرِ في كلِّ نَفَسٍ وحالٍ، فأيُّما قلْبٍ رآه مؤثراً له، حَفِظَهُ من الطوارق والمِحَنِ ومضلاَّت الفِتَن، وقال رحمه اللَّه: ماعرف الحَقَّ مَنْ لم يُؤْثره، وما أطاعه مَنْ لم يَشْكُرْه. انتهى.
وقوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب...} ألاية: لفظ عامٌّ في جميع الأمور، فيتصوَّر في المكاسِب، وعدد النَّاس، والمعارفِ مِنَ العلوم ونحوِهَا، فالخبيثُ مِنْ هذا كلِّه لا يُفْلِحُ ولا يُنْجِبُ، ولا تحسُنُ له عاقبةٌ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ: نافعٌ جميل العاقبة، ويَنْظُرُ إلى هذه الآيةِ قوله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف: 58]، والخبث: هو الفساد الباطنُ في الأشياء حتى يظن بها الصَّلاح، وهي بخلافِ ذلك. وقوله سبحانه: {فاتقوا الله ياأولي الألباب}: تنبيهٌ على لزوم الطَّيِّب في المعتقَدِ والعملِ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر؛ لأنهم المتقدِّمون في مَيْز هذه الأمور، والذين لا ينبغي لهم إهمالها؛ مع ألبابهم وإدراكهم.

.تفسير الآيات (101- 102):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...} الآية: اختلف الرواةُ في سببها، والظاهرُ مِنَ الروايات أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَلَحّت علَيْه الأعراب والجُهَّال بأنواع من السؤالاتِ، حَسْبَما هو معلومٌ في الروايات، فزَجَرهم اللَّه تعالى عَنْ ذلك بهذه الآيةِ، وأشْيَاء: اسمٌ لجَمْعِ شيْءٍ، قال ابنُ عباس: معنى الآية: لا تسأَلُوا عن أشياء في ضِمْن الأنباء عنْها مساءَةٌ لكم؛ إما بتكليفٍ شرعيٍّ يلزمكم، وإما بخَبَر يسوءُكم، ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربُّكم بأمر، فحينئذٍ إنْ سألتم عن تَفْصيله وبَيَانِهِ بُيِّنَ لكم، وأُبْدِيَ، ويحتملُ قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ}؛ أنْ يكون في معنى الوعيدِ؛ كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لَقِيتُمْ غِبَّ ذلك وصعوبته، قال النوويُّ: وعن أبي ثعلبة الخُشَنِيِّ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ؛ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً؛ فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ؛ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ؛ رَحْمَةً بِكُمْ، لاَ عَنْ نِسْيَانٍ؛ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا»، ورُوِّينَاه في سنن الدارقطنيِّ. انتهى، وفي صحيح البخاريِّ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واختلافهم على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فاجتنبوه، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم» انتهى.
و{عَفَا الله عَنْهَا}: معناه: تركَها، ولم يُعَرِّفْ بها، {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} قال الطبريُّ: كقومِ صالحٍ؛ في سؤالهم الناقة؛ وكبني إسرائيل؛ في سؤالهم المائدةَ، أي: وكطلب الأممِ قديماً التعمُّقَ في الدِّين من أنبيائها، ثم لم تَفِ بما كُلِّفَت.

.تفسير الآيات (103- 104):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
وقوله سبحانه: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ...} الآية: أي: لم يجعلْ سبحانه شيئاً مِنْ ذلك، ولا سَنَّهُ لعباده، المعنى: ولكن الكُفَّار فعلوا ذلك؛ كعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وغيره مِنْ رؤسائهم؛ {يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب}؛ بقولهم: هذه قربةٌ إلى اللَّهِ، {وَأَكْثَرُهُمْ}، يعني: الأتْبَاعَ {لاَ يَعْقِلُونَ}، بل يتَّبِعون هذه الأمور تقليداً، و{جَعَلَ} في هذه الآية: لا يتَّجه أنْ تكون بمعنى خَلَقَ، ولا بمعنى صَيَّرَ، وإنما هي بمعنى: مَا سَنَّ ولا شَرَعَ،
قال * ص *: {مَّا جَعَلَ}: ذَهَبَ ابن عطيةَ والزمخشريُّ إلى أنها بمعنى: شَرَعَ، قال ابن عطيَّة: ولا تكونُ بمعنى خلق، لأن اللَّه تعالى خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى صيَّر؛ لعدم المفعولِ الثاني، قال أبو حيَّان: ولم يذكر النحويُّون لها هذا، وقد جاء حَذْفُ أحد مفعولَيْ ظَنَّ وأخواتِها قليلاً، فتحمل هذه على حَذْفِ المفعولِ الثانيِ، أي: ما صَيَّر اللَّه بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حامياً مشروعاً، وهو أولى من إثبات معنًى لم يُسْمَعْ فيها، وذكر أبو البقاء؛ أنها هنا بمعنى سَمَّى انتهى.
قُلْتُ: وحاصل كلامِ أبي حيَّان؛ أنه شهادةٌ على نفْيٍ، وعلى تقدير صحَّته، فيحمل كلام ابن عطيَّة على أنه تفسيرُ معنًى، لا تفسير إعرابٍ.
وبحيرة: فعليةٌ بمعنى مَفْعُولة، وبَحَرَ: شَقَّ، كانوا إذا نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ، شَقُّوا أذنها بِنِصْفَيْن طُولاً، فهي مَبْحُورة، وتُرِكَتْ ترعى، وتَرِدُ الماء، ولا ينتفعُ بشيء منْها، ويحرَّمُ لحْمُها؛ إذا ماتَتْ على النساء، ويُحلَّلُ للرِّجَال؛ وذلك كلُّه ضلالٌ، والسائبة: هي الناقة تسيَّب للآلهة، والناقةُ أيضاً إذا تابَعَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ إناثاً ليس فيهِنَّ ذكَرٌ، سُيِّبَتْ، وكانت السوائبُ أيضاً في العرب؛ كالقُرْبة عند المرَضِ يُبْرَأُ منه، والقُدُوم من السفرِ، وإذا نزل بأحدهم أمْرٌ يُشْكَرُ اللَّه تعالى عليه، تقرَّب بأنْ يسيِّب ناقةً، فلا ينتفعُ منها بِلَبَنٍ، ولا ظَهْر، ولا غَيْره، يَروْنَ ذلك كعِتْقَ بني آدمَ؛ ذكَره السُّدِّيُّ وغيره، وكانَتِ العربُ تعتقدُ أنَّ مَنْ عَرَضَ لهذه النوقِ، فأخذها أو انتفع منْهَا بشيْءٍ، فإنه تلحقه عُقُوبةٌ مِنَ اللَّه، والوصيلةُ: قال أكثر النَّاس: إن الوصيلَةَ في الغَنَمِ، قالوا إذا وَلَدتِ الشاة ثلاثةَ بُطونٍ، أو خمسةً، فإن كان آخرها جَدْياً، ذبحوه لِبَيْت الآلهة، وإن كان عَنَاقاً، استحيوها، وإن كان جَدْيٌ وعَنَاقٌ، استحيوهما، وقالوا: هذه العَنَاقُ وَصَلَتْ أخاهَا، فمنعتْهُ مِنْ أنْ يُذْبَحَ، وعلى أن الوَصِيلة في الغَنَم، جاءت الرِّوايات عن أكثر الناس، وروي عَنِ ابن المسيَّب؛ أن الوصيلة مِنَ الإبل، وأما الحامِي؛ فإنه الفَحْل من الإبل، إذا ضَرَبَ في الإبل عشر سنين، وقيل: إذا وُلِدَ من صُلْبه عَشْرٌ، وقيل: إذا وُلِدَ مِن وَلَدِ ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيَّبوه، لا يركب، ولا يسخَّر في شيء، وعبارةُ الفَخْر: وقيل: الحامِي: الفَحْلُ؛ إذا رَكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. انتهى، قلتُ: والذي في البخاريِّ: والحامِ: فحلُ الإبلِ يَضْرِب الضِّرَابَ المعدُودَ، وإذا قضى ضِرَابه، وَدَعُوهُ للطَّواغيتِ، وأعْفَوْه من الحمل، فلم يُحْمَلْ شيءٌ عليه، وسمَّوْه الحامِيَ. انتهى.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}، يعني: لهؤلاءِ الكفار المستنِّينَ بهذه الأشياء: {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله}، يعني: القرآن الذي فيه التحريمُ الصحيحُ، {قَالُواْ حَسْبُنَا}، معناه: كَفَانَا.